الاثنين، 6 أغسطس 2012

حكايات جحا


بقلم : سليم عثمان
كاتب وصحافي سوداني مقيم فى الدوحة
النفس قد تمل من ملازمة الجد وترتاح إلى بعض المباح من اللهو ، سيما حين تزداد الخطوب ،ويصعب أمر المعاش ، وتكثر المشاكل، وقد كثرت هذه الأيام حتى إذا الكل مهموما محزونا ،وكما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أنه قال لحنظلة: ساعة وساعة. وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: روحوا القلوب بطرائف الحكم،فإنها تمل كما تمل الأبدان ،وقال الرشيد: النوادر تستحدّ الأذهان وتفتق الآذان. وقال آخر: لا يحب الملح إلا ذكران الرجال ،ولا يكرهها إلا مؤنثوهم ،وقال الشاعر:
أروح القلب ببعضِ الهزلِ .. تجاهلاً منيّ بغير جهل
أمزحُ فيه مزحَ أهلِ الفضل .. والمزحُ أحياناً جلاءُ العقل.
وقال سفيان الثوري :هجران الأحمق قربة إلى الله تعالى، فمن ضرب المثل بحمقه وتغفله هبنقة ،واسمه يزيد، وكان قد جعل في عنقه قلادة عظام وودع وقال: أخشى أن أضيع من نفسي ،ففعلت ذلك لأعرفها ،فحولت أمه القلادة إلى عنق أخيه، فلما أصبح ورآها قال: يا أخي أنا أنت ،وضل له بعير فجعل يقول :من وجده فهو له فقيل له: فلم تنشده ؟قال: لحلاوة الظفر، واختصمت بنو طفاوة وبنو راسب في رجل ادعى كل من الفريقين أنه منهم، فقال هبنقة : حكمه أن يلقى في الماء ،فإن طفا فهو من طفاوة ،وإن رسب فهو من راسب ،فقال الرجل: إن كان الحكم هكذا فقد زهدت في الطائفتين.
قيل : صلى إعرابي خلف بعض الأئمة في الصف الأول،وكان اسم الأعرابي مجرما ، فقرأ الإمام والمرسلات عرفاً ،فلما بلغ إلى قوله تعالى (ألم نهلك الأولين ) تأخر الأعرابي إلى الصف الأخير، فقال: (ثم نتبعهم الآخرين) فرجع إلى الصف الأوسط ،فقال :(كذلك نفعل بالمجرمين) فولى هاربا وهو يقول: والله ما المطلوب غيري.
ومثله صلى أعرابي خلف أمام صلاة الصبح ،فقرأ الإمام سورة البقرة ،وكان الأعرابي مستعجلا ففاته مقصوده ،فلما كان من الغد بكر إلى المسجد ،فابتدأ فقرأ سورة الفيل ،فقطع الأعرابي الصلاة، وولى هارباً ،وهو يقول: أمس قرأت سورة البقرة ،فلم تفرغ منها إلى نصف النهار، واليوم تقرأ سورة الفيل ،ما أظنك تفرغ منها إلى الليل.
ومنه كان أعرابي قائما يصلي، فأخذ قوم يصفونه بالصلاح ،وهو يسمع فقطع الصلاة وقال : وأنا مع هذا صائم، ومنه دخل خالد بن صفوان الحمام ،وفي الحمام رجل ومعه ابنه ،فأراد الرجل أن يعرف خالداً ما عنده من البيان والنحو، فقال :يا بني ابدأ بيداك ورجلاك ،ثم التفت إلى خالد فقال له : يا أبا صفوان هذاكلام قد ذهب أهله فقال :خالد هذا كلام ما خلق الله له أهلا.
نادرة لطيفة: نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين ،فلم يشك أنهم ذاهبون إلى وليمة فقام وتبعهم ،فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم، فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته، لم يبق إلإ الطفيلي وهو جالس ساكت ،فقال له: أنشد شعرك فقال :لست بشاعر قيل: فمن أنت؟ قال من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء.
وحكى الهيثم بن عدي قال: ماشيت الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه ،في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة ،وكان المريض بخيلا وتواصينا على أن نعرض بالغداء ،فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال بعضنا: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) قال : فتمطى المريض وقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال: قوموا فما لكم هنا من فرج.
ومن لطائف المنقول: أن أبا محمد الوزير المهلبي كان في غاية من الأدب والمحبة لأهله، وكان قبل اتصاله بمعز الدولة بن بويه في شدة عظيمة من الضرورة والمضايقة، وسافر وهو على تلك الحالة، ولقي في سفره شدة عظيمة فاشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالا:
إلا موتٌ يباع فأشتريه .. فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي .. يخُلِّصني من العيش الكريه
إذا أبصرتُ قبراً من بعيدٍ .. وددت لو أنني فيما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ .. تصدّق بالوفاة على أخيه
كان له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي وقيل :أبو الحسن العسقلاني فلما سمع الأبيات اشترى له لحما بدرهم، وطبخه وأطعمه وتفارقا ،وتنقلب الأحوال وولي الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور، وضاق الحال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه:
ألا قل للوزير فدتْهُ نفسي .. مقال مذكّرٍ ما قد نسيه
أتذكرُ إذ تقولُ لضيق عيشٍ .. ألا موتٌ يُباعُ فاشتريه
فلما وقف عليها تذكر الحال وهزته أريحية الكرام فأمر له بسبعمائة درهم ووقع له في رقعته ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملا يرتفق منه.
وقيل أن أبي دلامة دخل على المهدي فأنشده قصيدة فقال : سل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين هب لي كلبا قال: فغضب وقال : أقول لك سل حاجتك تقول: هب لي كلبا فقال: يا أمير المؤمنين الحاجة لي أو لك فقال : بل لك فقال: إني أسألك أن تهب لي كلب صيد فأمر له بكلب فقال : يا أمير المؤمنين هبني خرجت للصيد أعدو على رجلي فأمر له بدابة فقال: له يا أمير المؤمنين فمن يقوم عليها ؟فأمر بغلام فقال: يا أمير المؤمنين هبني صدت صيدا وأتيت به المنزل فمن يطبخه؟ فأمر له بجارية ،فقال يا أمير المؤمنين :فهؤلاء أين يبيتون ؟فأمر له بدار فقال : يا أمير المؤمنين قد صيرت في عنقي عيالا فمن أين لي ما يقوت هؤلاء؟ قال :المهدي اعطوه جريب نحل ، ثم قال : هل بقيت لك حاجة قال : نعم فأذن لي أن أقبل يدك.
ومن المنقول عن حنين، أنه كان إسكافيا من أهل الحيرة ساومه أعرابي بخفين ،ولم يشتر منه شيئا وغاظه ذلك، فخرج إلى الطريق التي لا بد للأعرابي من المرور منها ،فعلق الفردة الواحدة منهما في شجرة على طريقه ،وتقدم قليلا فطرح الفردة الثانية واختفى، فجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فوق الشجرة فقال : ما أشبهه بخف حنين، لو كان معه آخر لتكلفت أخذه ، وتقدم فرأى الخف الآخر مطروحا فنزل وعقل بعيره وأخذه ورجع ليأخذ الأول ، فخرج حنين من الكمين فأخذ بعيره وذهب ورجع الأعرابي إلى ناحية بعيره فلم يجده، فرجع بخفي حنين فصارت مثلا.
وحكي أنه قدم رجل إلى بغداد ومعه عقد يساوي ألف دينار ،فأراد بيعه فلم يتفق فجاء إلى عطار موصوف بالخير والديانة ،فأودع العقد عنده ،وحج وأتى بهدية للعطار ،وسلم عليه فقال: من أنت ومن يعرفك ؟قال: أنا صاحب العقد فلما كلمه رفسه وألقاه عن دكانه، فاجتمع الناس وقالوا :ويلك هذا رجل صالح ،فما وجدت من تكذب عليه إلا هذا؟ فتحير الحاج وتردد إليه فما زاده إلا شتما وضربا،فقيل له :لو ذهبت إلى عضد الدولة لحصل لك من فراسته خير، فكتب قصته وجعلها على قصبة وعرضها عليه فقال: ما شأنك فقص عليه القصة ،فقال : اذهب غدا واجلس في دكان العطار ثلاثة أيام ،حتى أمر عليك في اليوم الرابع، فأوقف وأسلم عليك ،فلا ترد علي إلا السلام، فإذا انصرفت أعد عليه ذكر العقد ،ثم أعلمني بما يقول لك ففعل الحاج ذلك ،فلما كان في اليوم الرابع جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الحاج وقف وقال السلام عليكم ،فقال الحاج :وعليكم السلام ،ولم يتحرك فقال :يا أخي تقدم من العراق ،ولا تأتينا ولا تعرض علينا حوائجك؟ فقال له: اتفق هذا ولم يزده على ذلك شيئا ،هذا والعسكر واقف بكماله ،فانذهل العطار وأيقن بالموت فلما أنصرف عضد الدولة التفت العطار إلى الحاج، وقال له: يا أخي متى أودعتني هذا العقد ؟وفي أي شيء هو ملفوف ؟فذكرني لعلي أتذكر فقال: من صفته كذا وكذا فقام وفتش ثم فتح جرابا وأخرج منه العقد، وقال: الله أعلم أنني كنت ناسيا ولو لم تذكرني ،ما تذكرت فأخذ الحاج العقد ومضى، إلى عضد الدولة فأعلمه فعلقه في عنق العطار ،وصلبه على باب دكانه ونودي عليه هذا جزاء من استودع ثم جحد، ثم أخذ الحاج العقد ومضى إلى بلاده.
ومن المنقول عن أذكياء الأطباء أن جارية من جواري الرشيد، تمطت فلما أرادت أن تمد يدها لم تطق، وحصل فيها الورم ،فصاحت وآلمها فشق على الرشيد وعجز الأطباء عن علاجها ،فقال له طبيب حاذق : يا أمير المؤمنين لا دواء لها إلا أن يدخل إليها رجل أجنبي غريب، فيخلو بها ويمرخها بدهن نعرفه، فأجابه الخليفة إلى ذلك رغبة في عافيتها، فأحضر الطبيب الرجل والدهن وقال: أريد من أمير المؤمنين أن يأمر بتعريتها حتى يمرخ جميع أعضائها ،بهذا الدهن فشق ذلك على الخليفة، وأمره أن يفعل وأضمر في نفسه قتل الرجل ، وقال للخادم خذه وأدخله عليها بعد أن تعريها ،فعريت الجارية وأقيمت فلما دخل عليها وقرب منها، وسعى إليها وأومأ بيده إلى فرجها ليمسه ،غطت الجارية فرجها بيدها ،التي قد كانت عطلت حركتها، ولشدة ما داخلها من الحياء والجزع ،حمي جسمها بانتشار الحرارة الغريزية، فأعانها على ما أرادت من تغطية فرجها ،واستعمال يدها في فرجها ،فلما غطت فرجها قال لها الرجل :الحمد لله على العافية فأخذه الخادم وجاء به إلى الرشيد ،وأعلمه بالحال وما اتفق، فقال الرشيد للرجل: فكيف نعمل في رجل نظر إلى حرمنا ؟فمد الطبيب يده إلى لحية الرجل فانتزعها فإذا هي ملصقة ،وإذا الشخص جارية ،وقال :يا أمير المؤمنين ما كنت لأبذل حرمك للرجل ،ولكن خشية أن أكشف لك الخبر ،فيتصل بالجارية فتبطل الحيلة ،ولا يفيد العلاج ،لأني أردت أن أدخل على قلبها فزعا شديداً ،ليحمي طبعها ويقودها إلى تحريك يدها ،وتمشي الحرارة الغريزية في سائر أعضائها ، بهذه الواسطة فسرى على الرشيد ما كان وقر في صدره من الرجل وأجزل عطيته.
قال أبو عمرو الجهضمي: كان لي جار طفيلي وكان من أحسن الناس منظرا وأعذبهم منطقا وأطيبهم رائحة، فكان من شأنه إذا دعيت إلى وليمة يتبعني فيكرمه الناس من أجلي ويظنون صحبتي له ،فاتفق أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة، أراد أن يختن أولاده فقلت في نفسي:كأني برسول الأمير قد جاءني وكأني بالطفيلي قد تبعني والله لئن فعل لأفضحنه ،فأنا على ذلك إذا جاءني رسول الأمير يدعوني فما زدت على أن لبست ثيابي وخرجت فإذا أنا بالطفيلي واقف على باب داره وقد سبقني بالتأهب فتقدمت وتبعني فلما حضرت الموائد كان معي على المائدة فلما مدَّ يده ليأكل قلت :حدثني درسة بن زياد عن أبان ابن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار قوم بغير إذنهم فأكل طعامهم دخل سارقا وخرج مغيراً فلما سمع الطفيلي ذلك قال :أنفت لك والله يا أبا عمرو من هذا الكلام على مائدة سيد من أطعم الطعام فإنه ما من أحد من الجماعة إلا وهو يظن أنك تعرض به دون صاحبه وقد بخلت بطعام غيرك على من سواك ثم ما استحييت حتى حدثت عن درسة بن زياد وهو ضعيف وعن أبان بن طارق وهو متروك الحديث والمسلمون على خلاف ما ذكرت فإن حكم السارق القطع، وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الإمام ،وأين أنت من حديث حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،طعام الواحد يكفي الأثنين ،وطعام الأثنين يكفي الأربعة ،وطعام الأربعة يكفي الثمانية ،وهو إسناد صحيح ،ومتن صحيح متفق عليه ،قال أبو عمرو :والله لقد أفحمني ولم يحضرني جواب فلما خرجنا فارقني من جانب الطريق إلى الجانب الآخر، بعد أن كان يمشي ورائي وسمعته يقول:
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب .. بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا.
ومن المنقول عن أذكياء النساء ، حكى المدائني قال :خرج ابن زياد في فوارس فلقوا رجلاً ومعه جارية، لم ير مثلها في الحسن، فصاحوا به خل عنها وكان معه قوس فرمى أحدهم فهابوا الإقدام عليه ،فعاد ليرمي فانقطع الوتر ،فهجموا عليه وأخذوا الجارية ،فهرب واشتغلوا عنه بالجارية ،ومد بعضهم يده إلى أذنها ،وفيها قرط وفي القرط درة يتيمة لها قيمة عظيمة، فقالت : وما قدر هذه الدرة إنكم لو رأيتم ما في قلنسوته من الدر لاستحقرتم هذه فتركوها ،واتبعوه وقالوا له ألق ما في قلنسوتك ،وكان فيها وتر قد أعده فنسيه من الدهش ،فلما ذكره ركبه في القوس ورجع إلى القوم فولى ،و قيل أن رجلاً سأل بعضهم وكان من الحمق على الجانب عظيم فقال : إيما أفضل عندك معاوية أو عيسى بن مريم ؟فقال: ما رأيت سائلا أجهل منك ،ولا سمعت بمن قاس كاتب الوحي إلى نبي النصارى، ومن ذلك أن لصا تسور روزنة وكان اللص مغفلا فنظر من خلال الروزنة فوجد رجلا وزوجته وهي تقول له :يا رجل من أين اكتسبت هذا المال العظيم؟فقال لها:كنت لصا وكنت إذا تسورت روزنة بيت صبرت إلى أن يطلع القمر فإذا طلع اعتنقت الضوء الذي في الروزنة وتدليت بلا حبل وقلت:شولم شولم فنزلت فآخذ جميع ما في البيت ولا تبقى ذخيرة من ذخائر البيت إلا ظهرت لي ثم أقول :شولم شولم وأصعد في الضوء ولا ينتبه أحد من أهل البيت وأذهب بلا تعب ولا كلفة فسمع اللص ذلك فصبر إلى أن طلع القمر ونام أهل البيت فتعلق في ضوء الروزنة فوقع وتكسرت أضلاعه فقام إليه صاحب البيت وقبض عليه وأسلمه إلى صاحب الشرطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كل شيء ما خلا الله باطل .ون